من حين لآخر تجد مجموعة قنوات فضائية جديدة .... متخصصة في الافلام و الدراما العربية تطلق حملات بدايتها ... فتنثر حملاتها الدعائية على شوارع و ميادين البلاد باحجام قادرة على خطف تلفتات عينيك الحائرة و انت محشورا في زحام الشوارع فاقدا ما تبقى من صبرك ..... و مقاوما بغير جدوى اعتداءات تلك الشكمانات على خلايا و انسجه رئتيك العفيفتين ....
فكل قناة تجدها و قد اتخذت لنفسها اسما تراعي فيه بعنايه سهولة نقشه في الاذهان ....... و تعلن عن تعدد البضاعة لديها فبين قنوات افلام و مسلسلات و افلام جديدة _سينما_ و افلام قديمة ..و... و......... و لن يصعب عليك اكتشاف حجم المجهودات المبذولة لكي ينالوا منك اهتماما فتصبح احد مشاهديها او على اقل الطموحات زائرا خفيفا من زائريها ..... فتنهال ببركة قدومك الاعلانات و تكثر بطلتك البهيه المسابقات و الزيرو تسعوميات و تصبح الاشيا بعدها معدن ..... و ان لم تصل للمعدن فلعلها تحقق الحد الأدنى من الجشع الصحي للمستثمر المعاصر ........
فيجتهدوا في محاولات لا تعرف اليأس ان يقنعوك باكذوبة الإختلاف .... و انهم فقط القادرون على ان يأتوا لك بالجديد .. و انهم الوحيدون على سطح هذا الطبق الفضائي المالكون حصريا لسر سعادتك و لسلسلة مفاتيح انشكاحك ... و انهم الاكثر تميزا مما سواهم ... و انهم الوحيدون الدارسون لاحتياجات المشاهد العربي و رغباته المكبوته المحرومه ... فتأتي لتلبيها له كاملا غير مقصوصه ... و يزاحموا عليك تلك الشعارات التي تتكلم عن الملل و تحديه او عن عجزك لتغميض عينيك من فرط "البحلأه" في شاشات تلك القنوات ....
هذه الفوضى الفضائية مستمره منذ فتره ... و سيدرك المراقب لظاهرة تلك القنوات ان الاختلاف بينهم قد يتحقق في كل شئ الا في الأفلام التي يتم عرضها .... فهي مجموعه محفوظة من الافلام تم انتاجها على مدار السنوات الماضية على امتدادها ..... و يتم عرضها بشكل متتالي في دائرة لا يتوقع لها نهاية ... فاذا رأيت فيلما اليوم على قناة فستتلقفه غدا قناة أخرى لتعيد عرضه من جديد ..... و اذا لم يكتب عليك القدر الرحيم ان تراه في اليومين السابقين فمن السهل ان تتنقل بين القنوات تنقلا عشوائيا لكي يظهر لك تتر بدايته من جديد على قناة مجهوله دون سحرا او شعوزه .... فستكتشف بسهوله حقيقة تلك الكذبه الكبيره للتميز و الإختلاف و انها ماهي الا شعارات جوفاء نحيا في امثالها ليل نهار على كل المستويات .....
لا اتعجب من تلك القنوات قدر تعجبي من مشاهدي تلك القنوات .. فاي عقلية رتيبة هذه التي تشاهد نفس الفيلم بنفس الاحداث بنفس الاشخاص بنفس كل شئ عشرات المرات دون ملل يمنعها من تكرار تلك المأساه ..... اعرف انه من الممكن ان يعيد شخصا ما رؤية نفس الفيلم مره او مرتين او ثلاثة ... خاصا اذا كان فيلما مميزا فيستحق مرات اكثر من المشاهده .... او به متعه لا تكفيها مرة واحدة لتحصيلها ... او يحتاج عين ناقده تعيد قراءة العمل من زوايا متجدده ..... لكن الذي لا اعرفه ان يصبح اعادة الفيلم بشكل ممل و متكرر هي المتعة في ذاتها ... هنا ادعي ان تلك المتعة الزائفة حتما و ستلصق بالمشاهد الكثير من الصفات الغير سوية من البلاهة و الريالة و بعض الافرازات الانفية السائلة مع التبول اللا ارادي .....
هذا على مستوى اعادة نفس الفيلم .... لكن تكثر علامات الاستفهام حينما نتحدث عن الأفلام العربية عموما ... فهي اما افلام مستوحاه او مأخوذه او مستلهمه او منسوخه او مسروقه من بعضها او من غيرها ... فعلى مدار ال100 سنه سينما ... لدينا في الواقع بضعة افلام محدوده .... ثم تم استنساخهم _بقدرة قادر_ بعد ذلك الي مئات الأفلام كما فقط و ليس كيفا .... و هناك جانب اخر من التكرار و هو ان ترى بطلا سينمائيا على سبيل المثال ينجح مره في فيلم به مغامره او مطارده ... فتجده يقرر ان تكون كل افلامه التالية امتداد لنفس تلك المغامره و المطارده بنفس الاكشن بنفس الجري من نفس العصابات و نفس المفرقعات و ضربات الرصاص .... و نفس الجروح و الدم ... و نفس دموع البطلة المنهمره على اسم النبي حارسه و صاينه ..... فهو في اخر الامر نفس كل شئ مع تغيرات طفيفة في الاحداث التي تسبب المطاردات ..... و هذا ينطبق على كل الافلام بانواعها .... و مفهوم التجديد عندهم في غاية المحدودية فتجدها في بعض الشكليات السطحية الساذجه ... لكن في حقيقتها اعادات و تكرارات محفوظه ......
دفعني هذا ان اتنبأ اكثرمن مرة بتراجع تلك الظاهره او على الأقل عدم توسعها من جديد على مستوى النجاحات المبهرة لافلام السينما او توسع تلك القنوات و تزايدها ..... فبكل تأكيد سيمل الناس من هذه الاعادات و كثرة التكرارات فحتما ستنفجر بداخلهم إحتياجات الإنسان الطبيعي من التجديد و التغيير ... و سيثورا يوما معترضين على هذا الاسلوب في التعامل مع ما يفترض انه جانب ترفيهي في حياتهم اليومية .... و يمتنعوا عن مشاهده تلك القنوات او دخول تلك الافلام .... حتى ياتي الجديد الذي يجذب اهتماماتهم ...
لكني يوما بعد يوم اكتشف سوء تقديري لمشاعر هذا المشاهد ... و يثبت لي مدى مبالغاتي و ان سقف طموحاتي كان اعلى بكثير من الواقع المرير ...... و ذلك حينما اري حملة دعائية جديدة تعلن عن افتتاح بضعة قنوات اخرى تدور في نفس الفلك ..... فهذا ليس له معنى سوى ان تلك القنوات تنهال عليها الاموال بشكل يدفعهم الى افتتاح مداخل اخرى لتستوفي كل ذلك المال المنهمر .... او اجد فيلما جديدا يبدو من كل تفصيلة في اعلاناته انه اعلان عن فيلم قديم بل قديم جدا .... و مع ذلك يحقق ارادات هائلة .... تلك هي رغبة الجمهور الحزين ............. فالمشاهد العربي رغباته اصبحت في الملل و يحيا بالملل و للملل و ادمن التكرار و تعود على الرتابة و يدعو للمزيد من الإعادات ... و سيظل هو في مقاعد المتفرجين ... زاهدا في اي جديد ... مكتفيا و راضيا بما عنده ... يضحك على نفس القفشات و يبكي من نفس المشاهد المؤثره ... و ينفعل مع مشاهد الأكشن ذاتها ....
كل هذه الدهشة قلت او من الممكن ان تكون زالت حينما اخذني خيالي الشارد في تأمل اعم لأحوال هؤلاء المشاهدين في العقود القليلة التي مضت ..... نظره في احوالهم الحياتية ..... حينما ادركت مدى الملل الذي اصبح جزء اصيل في يومياتهم السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و ..... حينما ادركت ان التكرار لم يكن في الافلام السينمائية فقط ... بل هو انعكاس للمشاهد الواقعية التي يحيوا فيها ليل نهار ... هذه الشعوب التي ملت من اكاذيب حكامها منذ عقود و هم يتكلمون عن نفس الغد الافضل لابناء وطننا ... عن نفس التقدم المزعوم ... عن نفس النمو الاقتصادي الذي نسعى اليه في خطا حثيثة ... عن دخول بلادنا في مرحلة جديدة تلو مرحلة قديمة من الاصلاح .. عن تلك الديموقراطية اللعينة التي طال انتظارها في بلادنا و امثالها من بلاد العالم المتخلف ... عشرات السنين يتكرر و يتكرر نفس الكلام من نفس الاشخاص بنفس الاسلوب و الناس في نفس حالة الملل ذاتها .. او منهم من يعيش على وهم ان يصدقوا القول و لو لمره واحده قبل ان يلقى مصيره المحتوم ....
هذه الشعوب قد سلبت ارادتها منذ زمن طويل فاستسلموا لمن فرض نفسه عليهم و كبت على انفاسهم . و تنازلوا عن كل حقوقهم في استسلام و تسليم و سلامه و سلام ... يفعل بهم ما لا يريدون و يجبروا على ما هم له كارهون ... و هم صامتون حامدون شاكرون ..... شعوب تشاهد افلاما سخيفة مكرره فواحد لحرية الانتخابات و حق المواطن في التصويت ... و صوتك امانه ... و اذ بها مشاهد معاده من فيلم قديم به عري و اسفاف .. و واحد اسمه عصر الحرية و حق المواطن في التعبير و تجد ان مصيرك احدى زرايب امن الدوله يتداولون عليك بعصيان المقشات .... اخرى اسمها الضرائب و مصلحتك اولا ... اسم جديد لفيلم ايضا قديم قدم الفراعنه و حروب الهكسوس .. فما هي الا جباية و اتاوه جديده ... اخرى اسمها "مصر اولا" السعودية اولا" "قطر اولا" الجزائر اولا" ...كله اولا ..... و في الحقيقة دي خيبه كبيره يصعب صياغتها في الفاظ لائقة بالآداب العامة ........اخرى التي يسموها السلام مع اسرائيل .... فيمنوا علينا اذا بتسميتنا "اصدقاء اسرائيل المعتدلين" !!.......... اخرى اسمها "المفاوضات" ... و ما هي الا احدي تناقضات هذا الزمان .. فما معنى جلسه يجلس فيها القوي مع الضعيف ليفرض عليه طلباته دون اخذ او رد .... ثم يخرجوا فيقولوا ... محاولات جديده لكي نحيا معا في سلام ..!!
شعوب اصابها الصمت و قلة الحيلة و انحصروا شيئا فشيئا داخل انفسهم و اصبحوا لايهمهم الا تلك المحاولات المستميتة لإيجاد القوت .. في سيناريو يومي مكرر ...... تلك الشعوب التي اعتادت الملل ..... كل يوم شبه الأخر ... كل عام شبه الذي يليه .... تامل تلك المشاهد المعادة من انتفاضة في فلسطين او حرب في جنوب لبنان او حصار على غزة ... او حرب في العراق .. افغانستان ...السودان ... او دك بالدبابات لكل ما هو مقاوم و قذف بالطائرات و قتلى و جرحى بالالاف .. و يخرج حكامنا ليعيدوا نفس المشاهد المكرره المملة ذاتها من نفس الافلام ذاتها يتغير كل الممثلون احيانا و لكن لا يتغير السيناريو و لا يتغير الاخراج ... يخرجوا في شجب و ادانه و اعتراض مقروء من اوراق مكتوبه بخط الذل و الهوان ... يخرجوا بنفس الاجتماع العاجل لجامعه الدول العربية ... نفس البيان الختامي ذاته .... نفس كل شىء ....... كل شئ كل شئ ..... حتى اصبحنا ارخص شعوب الارض دما و لحما ايضا بالنسبة لغيرنا و بالنسبه لانفسنا .......
حتى شعوبنا بردود افعالها العفوية المكبوته دخلت في دائرة التكرار ايضا ... نفس المظاهرات .. نفس حرق العلم الامريكي و الصهيوني .... نفس الحركة الهائلة على الانترنت ... نفس شعارات "حسبي الله و نعم الوكيل" نفس ادعية "اللهم انصر الاسلام و اعز المسلمين" .. نفس "فداك ابي و امي يا رسول الله"... نفس حملات الايميلات ... نفس الحماس نفس تلك الشعلة المحترقة من الاحساس الوقتي بالقضية .... ثم نفس الهبوط ذاته ... نفس النسيان و التناسي و الانشغال ... شعوب ماشية بزمبلك ..!! .. كلها مشاهد مكرره واقعية فلما نلوم على تلك السينمائية .... شعوب ادمنت الملل و اعلنت الا تتحداه ....
كل ذلك جال بخاطري حينما حدث ما حدث لاسطول الحرية من ذلك الهطل الصهيوني .... و توقعت كالعادة كل ردود الافعال المكرره .... و لكن هناك صوتا جديدا لم نعتد على نغمته منذ عشرات السنين .. صوت مختلف عن تلك الحناجر المشروخه التي سأمناها .... صوت به تنديد و شجب و لكن ليس هذا كذاك ... اعتراض بصوت به قوة به حسابات دبلوماسية ذكية و ليست هوجاء ... يلحظ فيه خروج عن النص المكتوب مسبقا و تكرر تمثيله في كل المحافل المشابهه من هؤلاء المتحكمين فينا ..... هذه المره صوت يلمس اوتار القلوب و يصحي باعماقنا بواقي من العزة التي حسبناها قد ماتت فينا ..... صوت امل في غد تجتمع فيها الرغبه و القدرة ... و ليس شعارات جوفاء هذه المره قامت تركيا بتحدي الملل الذي كدنا ان نفقد الامل في تغييره .... و قامت بعمل سيناريو جديد في المنطقة ... ادوار جديدة في قراءة جديدة لما يحدث في امتنا منذ عقود ... لا نقول ان تركيا هي المخلص و كل هذا الكلام ... لان لا مخلص حقيقة لازماتنا الا فينا كلنا معا نحن مجتمعين و مصر في المقدمة بطبيعة التاريخ ...
و لكن هنا نتكلم عن صوت شق الصمت .. عن شيئا على الاقل يبث فينا روح الامل و اذا تكلمنا على المستقبل القريب فسيكون منا صنفان ... صنف سيتمرد على الماضي الاليم و يلعن الملل و اللي جابوه و يامل في غد جديد يغير فيه ما كان و يشارك في هذه المشاهد الجديدة و ربما شارك في ادوار لها ثقل ...... و صنف اخر سيشاهد نفس الاحداث بنفس الطريقة ثم ينفعل ثم يهدأ ثم ينام ثم يصحوا ثم ينفعل ثم يهدأ ....... و سيختار ان يبقى الى الابد من الذين لا يتحدون الملل ...!